العدالة مطلب كل حي؛ ومسعى كل سَوِيّ؛ لأن الظلم لا تقره الطباع السليمة ولا الفطر المستقيمة.

ودين الإسلام من أوفى الأديان إقراراً للعدالة؛ حيث تمثلت العدالة في تشريعاته وسننه وقوانينه؛ وطبقت العدالة بحذافيرها في العهد النبوي والراشدي؛ فرأوا الناس العدل في أبهى صوره وأشرق عهوده في تلك الحقب الذهبية؛ فعلموا أن هذا الدين هو الدين الحق؛ فدخلوا فيه أفواجاً.

والعدل من أسس البعثة التي من أجلها بُعثت الرسل وأنزلت الكتب؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]

والعدل قد أمر الله به تصريحا ونهى عن ضده وهو البغي والظلم والجور؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النحل: 90]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } [النساء: 58].

وجاء الثناء على الأئمة العدول؛ فكان جزاؤهم أن يكونوا ممن يشملهم ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله؛ كما روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ…

بل جاء الأمر بالعدل مع النفس والإنصاف منها؛ وإن كان الحق عليها؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِي} [النساء: 135]

كما جاء الأمر بالعدل مع الأعداء؛ فكان النهي عن الظلم لهم؛ فلم تكن صفة العداوة مانعة من تحقيق العدالة معهم؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة: 8]

ففي مجال التشريع لم تفرق الشريعة بين البشر؛ فكلهم سواء أمام الحق؛ لا فضل لأحد على أحد إلا بقدر تمسكه بالتقوى؛ كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم تساوي الناس أمام العدالة في مجمع شهده القاص والداني حينما خطب في منى؛ كما رواه الإمام أحمد في مسنده أن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى.

بل كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً للعدالة التامة في حياته كلها؛ حيث ضرب أرع الأمثلة في تحقيق العدالة والأمر بها؛ ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ؛ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا.

فأي عدالة أعظم من هذه العدالة؛ التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن فاطمة وهي فلذة كبده وشجنة فؤاده؛ لو سرقت –وحاشاها رضي الله عنها وأرضاها-لقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها.

وحين أراد بعض الصحابة أن يوصي لبعض أولاده دون بعض؛ فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على ذلك؛ فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يشهد على جور؛ كما روى مسلم في صحيحه عن النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ ، سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لاِبْنِهَا ، فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ ، فَقَالَتْ : لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا وَهَبْتَ لاِبْنِي ، فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لاِبْنِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَلاَ تُشْهِدْنِي إِذًا ، فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ.

وهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاباً يمثل أنموذجاً وميثاقاً لشداة العدل؛ حيث قال فيه: أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك بحجة وأنفذ الحق إذا وضح فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع الشريف في حيفك.

فهذا نزر يسير للإشارة إلى منزلة العدل في الإسلام؛ فهو ركنه الركين؛ وأساسه المتين.

فمن زعم أن ظلمه وجوره للعباد وإفساده للبلاد من الدين في شيء فقد أعظم الفرية؛ وأبعد النجعة.

7,335 total views, 2 views today


Shares